محمد على
وبناء الدولة الحديثة فى مصر*
جاء محمد على الى مصر على رأس فرقة عسكرية ضمن الجيش العثمانى الذى جاء
لإخراج الفرنسيين من مصر وبدعم من بريطانيا . ولما خرج الفرنسيون فى سبتمبر
1801 بدأ صراع على السلطة فى مصر بين المماليك الذين أرادوا استعادة حكم
مصر منذ استقر فى أيديهم أيام على بك الكبير ، وبين الدولة العثمانية التى
رأت فى خروج الفرنسيين فرصة لاستعادة مصر ولاية عثمانية . وكانت انجلترا
التى أسهمت فى إخراج الفرنسيين تراقب الموقف بما يضمن مصالحها فى الطريق
الى مستعمراتها فى الهند .
وطوال ما يقرب من خمس سنوات (سبتمبر 1801-مايو 1805) وقعت البلاد فى فترة
من الاضطراب والفوضى تعدد فيها الولاة العثمانيين على الحكم بحيث انتهى حكم
كل واحد منهم إما بالقتل وإما بالهرب وإما بالسجن . وتجنب محمد على بفرقته
الألبانية التورط فى هذه المشكلات مما جعل النخبة المصرية من العلماء
وشيوخ الطوائف يعتقدون أنه أصلح من يتولى أمرهم . وعلى هذا اتفقوا على
إسناد ولاية مصر اليه فى مايو 1805 وأخذوا عليه العهود والمواثيق فى دار
المحكمة ليحكم فيهم بالعدل ويرجع اليهم فى كافة أمور الحكم . ولم تفلح
محاولات السلطان العثمانى بشتى الوسائل وبتأييد من انجلترا فى إبعاده عن
الحكم .
كانت انجلترا تريد تولية محمد بك الألفى أحد زعامات المماليك ولاية مصر
وكانت قد اصطحبته معها عند خروجها من مصر فى مارس 1803 ثم عاد بعد عامين
استعدادا لذلك . ولما فشلت انجلترا فى الحيلولة دون تولية محمد على بادرت
بارسال حملة عسكرية فى مارس 1807 (بقيادة فريزر) لعزل محمد على وتنصيب
الألفى . غير أن الألفى كان قد مات قبل وصول الحملة بأربعة أشهر تقريبا
ففقدت انجلترا سندها الرئيسى فى المشروع . وتمكنت المقاومة الشعبية فى
الاسكندرية ورشيد والحماد من إنزال ضربات قوية للانجليز وأسروا بعضهم
وقطعوا رؤوس البعض الآخر . وسارع محمد على بالوصول الى الاسكندرية وكان
يقاوم المماليك فى الصعيد وضرب الحصار على المدينة حتى اضطر القائد
الانجليزى لطلب الصلح والجلاء عن المدينة . وبهذا تخلص محمد على من شبح
الخطر الانجليزى على ولايته بفضل وقوف الزعامة الشعبية المصرية الى جانبه .
ثم ساعدت الظروف محمد على فى التخلص من الزعامة الشعبية التى اختارته واليا
ضد رغبة السلطان والممثلة فى السيد عمر مكرم ، ففى اغسطس 1808 جاء فيضان
النيل منخفضا مما أثر على المحصول الزراعى فساءت الأحوال وارتفعت الأسعار ،
ورأى محمد على تخفيفا للأزمة إعفاء الملتزمين من دفع ضريبة الفائض من
التزامهم . غير أن الملتزمين ومن بينهم علماء ، لم يخففوا عن الفلاحين
الضريبة المقررة عليهم . وانتهز محمد على الفرصة لمواجهة الأزمة بفرض ضريبة
على أراضى الملتزمين الخاصة (المعروفة بأرض الوسية) وكانت معفاة من
الضرائب منذ تقرر هذا النظام أيام الحكم العثمانى المباشر فى منتصف القرن
السادس عشر ، والزام الملتزمين بتقديم نصف الفائض من الالتزام ، وفرض ضريبة
على بعض الصناعات . وكان لا بد من أخذ موافقة السيد عمر مكرم على هذه
الاجراءات طبقا لشروط تولية محمد على وباعتبار عمر مكرم نقيبا للأشراف .
لكن عمر مكرم رفض التباحث مع محمد على وانتهزت العناصر المنافسة لعمر مكرم
الفرصة فأوغرت صدر محمد على ضد الرجل وأفهمته أنه فرد عادى فأقدم محمد على
على خلعه من نقابة الأشراف وإرساله الى دمياط (1809) ووضع مكانه الشيخ محمد
السادات الذى أصبح طوع بنان محمد على .
وهكذا تخلص محمد على من رقابة القوى الشعبية التى اختارته واليا ، ولم يبق
أمامه إلا قوة المماليك ليخلص له حكم مصر . وقد جاءته الفرصة عندما طلب منه
السلطان العثمانى التوجه الى الجزيرة العربية لمواجهة خطر الدعوة الوهابية
فدعا قيادات المماليك الى القلعة احتفالا بذهاب ابنه طوسون وعساكره الى
هناك . وبعد انتهاء مراسم الاحتفال حوصرت فرق المماليك وتم قتلهم جميعا إلا
من استطاع منهم الفرار (أول مارس 1811) .
وهكذا انفرد محمد على بالحكم دون قوى منافسة وبدأ فى بناء القوة الذاتية
المنظمة فى المجالات الاقتصادية والادارية والعسكرية والتعليمية بشكل مغاير
لما عليه الحال فاستحق لقب "مؤسس مصر الحديثة " . ومن الملاحظ أن محمد على
شرع فى هذا البناء قبل أن تبدؤه الدولة العثمانية ذاتها . ولعل السبب فى
ذلك يرجع الى أن محمد على لم يكن واليا تقليديا من العناصر التركمانية التى
خدمت فى دائرة الوظائف العثمانية التقليدية بل لقد كان رجلا مدنيا فى
الأصل نشأ فى مدينة قولة الألبانية وعمل بالتجارة والتحق بالجيش العثمانى
عندما فكرت الدولة فى اخراج الفرنسيين من مصر وكانت تجارته فى الدخان قد
كسدت بسبب حروب الثورة الفرنسية فى أوربا . ولعل اشتغاله بالتجارة كان له
تأثيره على توجهاته فى تنظيم اقتصاديات مصر .
لقد نظم محمد على اقتصاديات مصر فى الزراعة والصناعة والتجارة باجراءات
عرفت اصطلاحا بالاحتكار ، ومعناه أن تقوم الحكومة بتحديد نوع الغلات التى
تزرع ونوع المصنوعات التى تنتج وتحديد أثمان شرائها من المنتجين وأثمان
بيعها فى السوق . وبهذا الاسلوب يضمن الدخول فى سوق التجارة الدولية منافسا
لغيره مع حماية الانتاج المحلى . وقد وصف عبد الرحمن الجبرتى هذه
الاجراءات بكلمة الاحتكار أحيانا والحجر أحيانا أخرى ، ووصفتها المراجع
الغربية بالمونوبولية monopoly (وترجمتها الحرفية : سياسة فردية) . وقد
تعنى هذه الاجراءات فى عرف مصطلحات الاقتصاد السياسى "رأسمالية الدولة" أو
"اشتراكية الدولة" أو "المركنتيلية" التى كانت سائدة فى أوربا قبل الثورة
الصناعية .
وفى مجال الزراعة قام محمد على بتغيير أوضاع حيازة الأرض عبر سلسلة من
الاجراءات منذ أزمة فيضان النيل صيف 1808 كما سبقت الاشارة انتهت فى عام
1814 بالغاء نظام الالتزام فى جمع الضرائب ومصادرة أراضى الملتزمين
(الوسايا) وتسجيلها باسم الدولة ، وضبط أراضى الأوقاف لصالح الدولة ،
ومصادرة المساحات التى عجز المنتفعين بها عن اثبات حيازتهم لها . وأعاد مسح
الأرض من جديد وتكليف الفلاحين بزراعتها فى وحدات معينة حسب قدرة كل أسرة
بشرط تسديد ما يقرر عليها من ضرائب والانتفاع بما يفيض ، وتزويد الفلاح
المنتفع بلوازم الزراعة يخصم ثمنها من قيمة المحصول عند تسليمه (أى ملكية
الانتفاع) . كما أوجد محمد على طبقة جديدة فى المجتمع الزراعى من أفراد
أسرته وكبار رجال الحاشية وكبار الموظفين وشيوخ البدو وشيوخ القرى وكبار
أعيانها الذين انتفعوا بأراضى الجفالك والأبعاديات ومسموح المصاطب والمشايخ
التى شكلت أساس الملكيات الكبيرة والمتوسطة فى مصر فيما بعد . كما اهتم
محمد على باحلال أساليب زراعية جديدة وادخال غلات زراعية جديدة (مثل أشجار
التوت والنيلة الهندية) وتحسين طرق الرى والتعليم الزراعى حين أنشا مدرسة
للزراعة .
وفى الصناعة قامت الحكومة بمهمة توجيه الانتاج وتوزيعه حيث تقوم بامداد
الصناع بالمواد اللازمة بالثمن الذى تحدده وتشترى الانتاج بالسعر الذى
تحدده أيضا . ونجح محمد على فى اقامة مصانع حكومية تتبع الدولة مباشرة
(قطاع عام) لتوفير الصناعات المطلوبة واستقدم خبراء من ايطاليا وفرنسا
وانجلترا لأعمال السباكة ومختلف الصناعات الجديدة وأرسل بالعمال المهرة منذ
1809 فى بعثات لبلدان أوربا لتعلم فنون مختلف الصناعات .
أما وقد خضعت الزراعة والصناعة لاشراف الدولة (الاحتكار) فكان من الطبيعى
أن تخضع التجارة أيضا للاحتكار بشراء الحاصلات من المزارعين بالثمن الذى
تحدده بعد أن تترك لهم ما يكفيهم لمدة سنة زراعية ، ويتم تخزينها فى مخازن
الحكومة (شون) حيث تقوم ببيعها بمعرفتها فى الخارج (التصدير) ، واحتكار
الاستيراد حيث كان لا يتم استيراد المنتجات التى لها مثيل محلى وقصر
الاستيراد على مستلزمات الانتاج .
وقد اهتم محمد على بالتعليم لخدمة دور الدولة فى الاقتصاد والادارة وبناء
القوة . وفى هذا الخصوص وخلال المدة من 1816-1839 قام بتأسيس المدارس
المدنية الحديثة التى تخدم أهداف التنمية الاقتصادية والعسكرية مثل
المهندسخانه ومدرسة الطب والصيدلة ، ومدارس لتعليم أصول المحاسبة والفنون
والصنايع والزراعة والبيطرة . وكان يلتحق بهذه المدارس فى البداية تلاميذ
الأزهر والكتاتيب من النابهين ثم أصبحت المدارس عامة ومدنية الطابع . ولما
تعددت المدارس واتسع نطاقها أنشأ محمد على ادارة خاصة لها سميت ديوان
المدارس (1837) فكانت أول وزارة للتعليم . كما أوفد البعثات خلال المدة من
1813-1847 الى بلدان أوربا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والملاحة
والهندسة والميكانيكا وأصول الرى والصرف ، وشملت البعثات أيضا دراسة
القانون والسياسة .
وكان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى الذى أوفده محمد على إماما لطلاب أول بعثة
كبيرة لفرنسا (1826) قد أفاد كثيرا من الثقافة الانسانية وأدرك قيمة
الاطلاع على علوم المجتمع الأوربى ومعارفه ، واقترح لدى عودته إنشاء مدرسة
الألسن (1836) لتدريس اللغات الأوربية والترجمة وكان لهذه المدرسة الفضل
الكبير فى نقل كثير من معارف الغرب الى مصر.
على أن التعليم المدنى الذى أقامه محمد على موازيا للتعليم الدينى التقليدى
أوجد ازدواجية فى الثقافة والفكر فى مصر خاصة وأن محمد على اختص خريجى
المدارس الحديثة بوظائف الحكومة وهذه الازدواجية التى زرعت بذورها أيام
الحملة الفرنسية كما سبقت الاشارة أصبحت أحد مشكلات الثقافة السياسية فى
المجتمع المصرى
أما تأسيس جيش حديث فكان شغل محمد على الشاغل وخاصة بعد تجربته فى معارك
الجزيرة العربية ضد الوهابيين (1811-1818) بفرق مرتزقة غير نظامية
(باشبوزق) بحيث يمكن القول بان الجيش هو محور سياسات محمد على الاصلاحية
وتحديث الدولة فمثلا كان إنشاء مدرسة الطب يرجع فى الأصل الى ضرورة إعداد
أطباء للجيش وكان إنشاء المهندسخانة بهدف إعداد خبراء فى الصناعات العسكرية
. وخلال المدة من 1820-1824 نجح محمد على فى تكوين جيش حديث من المصريين
بخبرة فرنسية قدمها الكولونيل سيف أحد ضباط جيش نابليون بونابرت الذى اعتنق
الاسلام باغراء من محمد على وأصبح اسمه سليمان باشا الفرنساوى .
ثم شرع محمد على فى بناء الاسطول البحرى فأنشأ ترسانة فى كل من بولاق
والاسكندرية لصناعة السفن الحربية والتجارية . وأقام معسكرا لتعليم البحارة
الجنود الأعمال البحرية وأرسل بعثات خاصة لاعداد الضباط البحريين ، وأيضا
مصانع للأسلحة والذخيرة وأقام القلاع والاستحكامات فى المقطم والاسكندرية
ورشيد ودمياط فضلا عن اصلاح قلعة صلاح الدين القديمة .
وقد اهتم محمد على بتنظيم الادارة المصرية لتخدم أغراض مشروعات البناء
والتنمية فأقام لكل مجال ديوانا يختص بشؤونه (الديوان وزارة بالمعنى
المعاصر) من ذلك دواوين : البحرية والحربية والتجارة والخارجية والمدارس .
ونتيجة لتوسع شؤون الحكومة وتعدد مهامها كون فى 1834 المجلس العالى (يماثل
مجلس الوزراء الآن) من نظار الدواوين ورؤساء المصالح وضم اليه اثنان من
علماء الأزهر واثنان من التجار واثنان من الأعيان عن كل مديرية . وفى 1839
كون محمد على مجلس المشورة ويضم كبار موظفى الحكومة والعلماء والأعيان
وجملتهم 146 عضوا (23 من كبار الموظفين والعلماء/ 24 من مأمورى الأقاليم /
99 من كبار أعيان البلاد) وسلطته استشارية فى مسائل الادارة والتعليم
والأشغال العمومية .
وتمشيا مع قاعدة الاحتكار التى أدار محمد على الاقتصاد على أساسها نراه
يعيد النظر فى التقسيم الادارى للبلاد لتوحيد الأعباء المالية المفروضة
فقسم البلاد الى سبع مديريات متساوية المساحة وعلى كل منها مدير . وقسمت كل
مديرية الى مراكز على كل منها مأمور ، وكل مركز يضم أقساما على كل قسم
ناظر . وكل قسم يضم نواحى وقرى على كل منها شيخ بلد أو عمدة ومعه كل من :
الخولى ومهمته مسح الأطيان والصراف لجمع الأموال الأميرية والشاهد
والمأذون.
وفى مجال القضاء استحدث محمد "جمعية الحقانية" (1842) وهى هيئة قضائية تختص
بمحاكمة كبار الموظفين ، وأنشأ مجلس التجارة وهو محكمة تجارية تختص بالفصل
فى المنازعات التجارية التى تنشأ بين الأهالى أو بينهم وبين الأجانب ولهذا
دخل فى تشكيلها ممثلون عن الأجانب .
ولقد ساعدت الظروف محمد على باشا على أن يقوم بدور سياسى فى المنطقة لفت
أنظار القوى الأوربية حتى لقد كانت تخشى على انهيار التوازن السياسى الذى
فرضته منذ القضاء على نابليون بونابرت (1815) ومن ثم تحالفت مع السلطان
العثمانى للقضاء عليه وتم ذلك فى 1840 كما سوف نرى . وكانت انجلترا ترقب
نشاط محمد على وما قد يمثله من خطورة على تأمين طريق مواصلاتها الى الهند .
والحاصل أن نجم محمد على بدأ يظهر منذ نجاحه فى القضاء على النفوذ
الوهابى-السعودى فى الجزيرة العربية فاسند اليه السلطان مشيخة الحرم المكى
وأسند لابنه ابراهيم متصرفية جدة فاتسع المجال الحيوى أمام محمد على ليشمل
الحجاز ونجد والعسير وجزء من اليمن وحتى مدخل الخليج العربى . وهنا أدركت
بريطانيا ما قد يمثله من خطورة فبادرت بفرض نفوذها وحمايتها على مشيخات
ساحل عمان ابتداء من عشرينات القرن التاسع عشر وانتهاء باحتلال عدن فى 1839
كما رأينا. ويبدو أن وجود محمد على بطول الساحل الشرقى للبحر الأحمر بعد
انتهاء الحروب الوهابية قد أغراه بمد مجاله على الساحل الغربى فبدأ بالتوسع
فى بلاد السودان جنوب مصر (1820-1822) . ومما قد يؤكد ذلك أنه طبق فى
السودان التنظيم الاقتصادى والادارى الذى قام به فى مصر .
وفى تلك الأثناء اندلعت ثورة فى بلاد اليونان ضد الحكم العثمانى من أجل
الاستقلال (1821-1828) فطلب السلطان مساعدة محمد على الذى نجح فى مهمته
فمنحه جزيرة كريت مكافأة . وقد شعر محمد على بقوته فى هذه الحرب حين تم
التفاوض معه مباشرة للتوصل الى اتفاقية لانهاء القتال (1828) ومن ثم نمت
فكرة استقلاله بمصر عن الدولة . وأخذ يتطلع الى ضم بلاد الشام فى اطار فكرة
المجال الحيوى فطلب من السلطان ذلك تعويضا له عن خسائره فى حرب اليونان .
والحقيقة أن تطلع محمد على لضم سوريا كان أسبق من ضم السودان بل كان سابقا
على حربه فى الجزيرة العربية . ففى 1810 كان يفكر فى مخاطبة السلطان لكى
يتنازل له عن سوريا مقابل مبلغ من المال . ثم عاودته الفكرة أثناء الحروب
الوهابية وطلب من السلطان ان يعهد اليه بولاية الشام بدعوى أهميتها فى
اخضاع الوهابيين لكن السلطان رفض . وقد أصبحت الفكرة أكثر الحاحا بعد
استقرار محمد على فى السودان ووجوده فى الجزيرة العربية ، إذ بضم سوريا
تكتمل وحد الأرض العربية فى مواجهة العثمانية .
وفى اكتوبر 1831 قرر محمد على التوسع فى الأراضى السورية وحققت قواته
العسكرية انتصارات متتالية وخلال ثلاثة شهور (مايو-يولية1832) دخلت عكا ،
ودمشق ، وحمص وتمركزت فى أدنه مفتاح الدخول الى الأناضول . وبناء على ذلك
اضطر السلطان العثمانى للاعتراف بنفوذه على سوريا وأدنه وفى كريت وجدة
وتأكد ذلك فى اتفاقية كوتاهية 1833 . ومثلما فعل محمد على فى السودان من
حيث تنظيمه على خطوط الادارة فى مصر تمشيا مع فكرة المجال الحيوى فعل الشىء
نفسه فى بلاد سوريا فقام بالاجراءات المناسبة لفرض النظام وإقرار سلطة
الحكومة المركزية فى مصر واخضاع امراء الاقطاع ونزع السلاح منهم وتنشيط
التجارة والزراعة وفرض نظام التجنيد .
وعلى هذا وشعورا من محمد على بقوته وضعف السلطان أمامه من ناحية أخرى اعتزم
اعلان الاستقلال التام عن السلطنة العثمانية وصارح قناصل الدول بما انتوى
عليه (1834) لكنهم حذروه . ثم جدد عزمه فى عام 1838 بسبب دسائس السلطان ضده
فى سوريا .
لقد أثارت انتصارات محمد على الدول الأوربية ليس عطفا على السلطان وإنما
خشية ازدياد نفوذه وخطورته على التوازن الدولى . ومن ناحية أخرى كانت
انجلترا قد ضاقت بسياسة محمد على الاقتصادية فى الاحتكار التى أغلقت السوق
المصرية أمام منتجاتها وفى محاولة منها لفتح السوق المصرية عقدت اتفاقية
تجارية مع الدولة العثمانية فى اغسطس 1838 عرفت ببلطه ليمان (المكان الذى
عقدت فيه بضواحى استانبول) تقضى بدخول المنتجات الانجليزية للولايات
العثمانية بما فيها مصر طبعا مقابل نسبة جمركية . غير أن محمد على رفض
تطبيق هذه الاتفاقية لأن من شأنها القضاء على نظامه الاقتصادى-الادارى
فأعطاه السلطان مهلة عام (اغسطس 1839) لكن محمد على رفض . وهنا التقت
المصالح الانجليزية السلطانية ضد محمد على وتقرر التخلص منه .
وفى تلك الأثناء أخفقت مساعى الصلح بين محمد على والسلطان فاشتبكت قوات
محمد على مع قوات السلطان انتهت بانتصار قوات محمد على (معركة نزيب أو
نصيبين شمال حلب فى 24 يونية 1839) . وهنا أدركت الدول الأوربية خطورة محمد
على على التوازن الدولى الذى تم إقراره فى فيينا 1815 بعد التخلص من
نابليون بونابرت . وتم التفاوض بين هذه الدول (انجلترا وفرنسا وروسيا
والنمسا وبروسيا آنذاك) وبين الدولة العثمانية انتهت بمعاهدة لندن 1840
التى قررت تحجيم قوة محمد على وذلك باخلائه كريت والحجاز وأدنه ، والالتزام
بتطبيق كافة المعاهدات التى يبرمها السلطان مع أى دولة (اشارة ضمنية
لاتفاقية بلطه ليمان) ، واعتبار قواته البرية والبحرية جزء من قوات السلطنة
وتكون فى خدمة السلطان ، مع التهديد باستخدام القوة إذا لم يقبل هذه
الشروط .
قرر محمد على رفض هذه الشروط بتشجيع من فرنسا لكنها ما لبثت أن تخلت عنه
فضلا عن قيام أهالى سوريا بانتفاضات ضده فآثر الرضوخ لشروط الدول الكبرى
وبهذا تم تدوير زاوية حادة كانت تهدد التوازن الدولى وظلت مصر ولاية
عثمانية ولكن بدرجة متميزة عن باقى الولايات
. ، .